بقلم: أكرم عطا الله
الأزمة الدائرة في إسرائيل أوضحت بشكل مكثف ترابط عناصر القوة في الدولة، وربما تعطي درساً جديداً في العلوم السياسية والإدارية لمن أراد أن يقرأ بعمق تكامل المكونات فيها. وربما تختصر الأزمة كل ما يمكن أن يقال عن العالم الثالث، وتحديداً الواقع العربي الذي تتداخل فيه دكتاتورية الفرد، وانعدام القضاء كجهة رقابية على أداء السلطة التنفيذية والتشريعية، وتغوّل القوى الحاكمة، ومنعها من استخدام السلطة لمصالحها الخاصة.
هذا التوازن الدقيق في تركيبة الدولة يميز تلك الدول القوية عن دول العالم الثالث، ويفك شيفرة ضعفها. فإسرائيل لم تكن قوية عسكرياً فقط في العلوم والتكنولوجيا، وفي حيوية أحزابها السياسية، وفي فصل الدين عن الدولة، وقوية أكثر بالقانون وليست القوة العسكرية، سوى نتاج كل حقول القوة تلك.
ولأن عناصر الدولة مثل حجارة الدومينو تستمد القوة من بعضها، وهو ما فسره المفكر والمؤرخ اليهودي دوف بوروخوف بنظريته للهرم، وهو يلاحظ أن الهرم الاجتماعي لليهود في أوروبا كان مقلوباً ومشوهاً، هذا قبل إقامة إسرائيل بعقود ليأتي بعده دافيد بن غوريون مؤسساً لدولة حاول فيها أن يحدث هذا التوازن الدقيق إلى الحد الذي وافق فيه على تأجيل كتابة دستور، وهو ما يحدث حتى اليوم لتدار إسرائيل بقوانين أساس تحظى بصلاحيات الدستور.
يتضح الأمر أكثر كيف أن خطأً بسيطاً لفتوى قانونية صدرت عن المحكمة العليا في إسرائيل جر الدولة إلى هاوية متعددة الأوجه، وانقسام اجتماعي، وتآكل لعناصر القوة وصورتها في المحيط وتحذيرات اقتصادية، وجدل في أذرع الأمن والجيش، وثقافة كراهية تنتشر بين مجموعتين سكانيتين، وتحطم جهاز القضاء.
كانت تلك الفتوى قد صدرت عن المحكمة، وللمصادفة التي تترأسها نفسها الرئيسة الحالية إستر حايوت، عام 2020، بعد تشكيل نتنياهو لحكومته بالشراكة، وتقاسم رئاسة الوزراء مع بني غانتس، بعد التماسات قدمت من قبل مجموعات مكافحة الفساد للمحكمة، بمنع من هو متهم بقضايا جنائية العمل كرئيس وزراء. لكن المحكمة أصدرت فتوى بالسماح له بتشكيل الحكومة ورئاستها.
فقد تمكن نتنياهو حينها من إقناع غانتس بتشكيل حكومة وحدة بالتناوب على وظيفة الوزير الأول فيها. وفيما كانت رئيسة المحكمة وغانتس يتصرفان بسذاجة أمام دهاء نتنياهو، فقد تمكن الأخير من التلاعب بهما، حيث عرض مشروع تحصينه من المحاكمات على شريكه، وعندما رفض غانتس عمل بسرعة على حل الحكومة، والذهاب لانتخابات أظهرت غانتس كالزوج المخدوع متنصلاً من اتفاق الشراكة قبل أن يصل موعد التناوب.
أما حايوت التي ينقض عليها نتنياهو حالياً فلا بد أن تندم، ليس فقط على صلاحياتها ونهاية حياتها المهنية بعد تهديدها بالاستقالة لو تم إقرار التعديلات القانونية، بل لأنها بفتواها مهدت الطريق لدكتاتورية، وكتبت بداية مرحلة إضعاف الدولة الإسرائيلية وإحداث هذا الشرخ. وأدى قرارها قبل ثلاث سنوات لتسليم الحكم لمجموعة من المتدينين الهذيانيين ليقلبوا الدولة رأساً على عقب.
هكذا بدأ الأمر قراراً عادياً للقضاء في ذروة الاحتفال بنتائج الانتخابات، لكن أحداً لم يتصور أنه سيؤدي إلى كل هذا مع رجل بات واضحاً أنه مستعد للتضحية بكل شيء من أجل مصالحه الشخصية ومصالح عائلته، فقد كان خطاب الخميس الماضي الذي ألقاه نتنياهو قبيل سفره يحسم أمر دور زعيم الليكود المتهم بالقضايا الجنائية في التعديلات القضائية، فقد كان هناك اعتقاد بأن الأمر يتعلق بياريف ليفين وزير القضاء الكاره للمؤسسات القائمة وأبرزها المحكمة، وأن شركاء نتنياهو يساندون الوزير المذكور لجملة من الأسباب، فيما يقف نتنياهو حائراً في المنتصف لا يستطيع وقف الإجراءات. لكن ما اتضح من خطابه أنه هو من يقف وراء كل هذا، بعد أن أعلن لأول مرة منذ الأزمة عن تبنيه لكل الإجراءات التي تسببت بها.
خطاب نتنياهو حسم الأمر باتجاه الاستمرار قدماً نحو التأزم، وينهي آمال النخب التي كان لديها أمل بالتوصل لحلول وسط، ما جعل بعض السياسيين يراهنون على آخر أمل من خلال تمرد داخل الليكود كوسيلة أخيرة لفرملة الانقلاب القضائي، الذي يضع الائتلاف لمساته الأخيرة على إقراره قبل نهاية الشهر، ليصبح ساري المفعول، وتدخل إسرائيل مرحلة جديدة.
وبات واضحاً أن لا المعارضة، ولا واشنطن، ولا أوروبا المتنورة، ولا الجاليات اليهودية في العالم بما فيها اللوبي القوي في الولايات المتحدة، ولا غيرهم، تمكنوا من التأثير في توجه الائتلاف اليميني القومي الذي تقوده شخصيات لديها إرث من الصراع مع القانون وتسعي للانتقام من المحكمة، وتلك التوجهات تغذي روح البرامج السياسية والاجتماعية والدينية والقومية لديها «نتنياهو – سموتريتش – بن غفير»، والشخصية حتى.
يبدو أن التاريخ الذي سجل لنتنياهو؛ كأكثر رؤساء وزراء إسرائيل ذكاء تمكن من تحقيق نجاحات مهمة للدولة، هو من سيكتب عنه التاريخ أنه تمكن أيضاً من الإطاحة بالدولة، ويبدو أن التاريخ الذي سيسجل لرئيسة المحكمة العليا انضباطها القانوني وحراسة القانون وتحقيق مناعة الدولة، هي من سيكتب عنها أنها من فتحت الباب لهذا الانقلاب القانوني. وهذه مصادفات الدولة وقدرها الطبيعي لأنها حملت مبكراً ثنائية التناقض، ثنائية الأزمة التي تفجرت حالياً. صحيح أن الأمر يتعلق أولاً بنتنياهو، لكن للأزمة عوامل أخرى أبعد يعكسها هذا الصدام بين ثقافتين حاولتا التعايش بضمان القانون.