دخل العالم عامه الجديد وهو محمّل بانشغالات ممتدة من الأعوام السابقة، فشبح فيروس كورونا ما زال حاضرا وإن بدا أنه ابتعد قليلا إلى حين، والحرب الروسية الأوكرانية لا تبدو لها نهاية، وتداعياتها على السياسة والاقتصاد لا تتوقف، لكن هذا لم يكن كل شيء.
فالإنسان المشغول منذ بدء الخليقة بالطعام والبحث عنه، انشغل طوال عام 2022 بما نتج عن الحرب من أزمة حبوب نظرا لأن الطرفين المتحاربين روسيا وأوكرانيا من أكبر منتجي ومصدري الحبوب في العالم.
وجاء 2023 ليحمل جدلا وهمّا آخر يتعلق بالطعام، ولكن ليس بالحبوب هذه المرة، وإنما بالحشرات وإمكانية استخدامها في الطعام، وهو أمر لم يكن جديدا لكن قرارا للاتحاد الأوروبي أعاده إلى الواجهة من جديد.
فقبل أيام من نهاية يناير/كانون الثاني، دخلت قوانين جديدة حيز التنفيذ في دول الاتحاد الأوروبي، تفتح الباب أمام إمكانية تحويل مزيد من أنواع الحشرات إلى أطعمة، مثل الصراصير المنزلية ومن اليرقات تشمل ديدان القمح فضلا عن الجراد المهاجر.
المستهلك يقرر
فالقوانين الأوروبية الجديدة تسمح مثلا بتجميد الصراصير وتجفيفها واستخدامها كمسحوق في الطعام، بحيث يمكن أن تضاف إلى الخبز والبسكويت والمقرمشات والمعكرونة والصلصات، وغيرها.
لكن من المهم الإشارة إلى أن الأمر حتى الآن يدخل في نطاق الممكن والمسموح به، وليس الموجود بالضرورة. والمفوضية الأوروبية تؤكد بوضوح أن “المستهلك هو من سوف يقرر ما إذا كان يريد تناول الحشرات أم لا”.
وتشير وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) إلى أن هذا يختلف من دولة لأخرى، ففي ألمانيا مثلا يمكن أن تحصل فقط على بضعة منتجات تحتوى على كميات صغيرة من الحشرات، مثل ألواح الطاقة أو النودلز، في حين أن “مزج بودرة الحشرات بالبسكويت أو الدقيق مايزال أمامه طريق طويل” كما أن الأغذية التي تضم حشرات ما زالت تمثل “سوقا صغيرا للغاية” حسب ما تنقل “د ب أ” عن أرمين فاليت وهو كيميائي يعمل بمجال الأغذية.
لماذا يفكر العالم بأكل الحشرات؟
الأمر يتعلق من ناحية بندرة الطعام، وكذلك القيمة الغذائية التي تحتوي عليها بعض الحشرات، حيث أشارت دراسات أجرتها منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) إلى أن بعض الحشرات ذات قيمة غذائية مرتفعة، حيث تحتوي على كميات من الدهون والبروتين والفيتامينات والألياف والمعادن.
وتحتوي الحشرات على بروتين مماثل للموجود في لحوم الحيوانات والديك الرومي، على الرغم من وجود تباين حسب نوع الحشرات، وفق ما تنقله وكالة “د ب أ” عن اتحاد المستهلكين الألماني.
ويعد تناول الحشرات أكثر استدامة من اللحوم والدجاج، وفقا للصندوق العالمي للحياة البرية. وبالمقارنة باللحم، فإن إنتاج الحشرات يتطلب أرضا زراعية أقل، أو نحو النصف، مقارنة بالدجاج. وتحتاج الصراصير نحو واحد على 12 من حجم الغذاء الذي تحتاجه الماشية لإنتاج نفس كمية البروتين، وفقا للفاو.
ليس ذلك فحسب، بل إن تربية الحشرات تسفر عن إطلاق كميات أقل من الانبعاثات الغازية. وبالإضافة لذلك، تصل النسبة القابلة للأكل في الحشرات إلى 80%، وهي أعلى بكثير من النسبة في الماشية التي تقدر بـ 40% فقط.
وقبل عدة أشهر نشرت الفاو على موقعها الرسمي موضوعا بعنوان “استعدوا لتقبّل فكرة الحشرات الصالحة للأكل” تحدثت فيه عن 4 أسباب تعتبر أنها تبرر تناول الحشرات الصالحة للأكل وتفتح آفاقا جيدة للأمن الغذائي وسبل العيش:
أنها مغذية
تتسم بالاستدامة من الناحية البيئية
تتيح فرصا اقتصادية
تشكل موردا غير مستغل بما فيه الكفاية.
وقدمت المنظمة لموضوعها بالإشارة إلى وجود مئات الحشرات الصالحة للأكل في جميع أنحاء العالم، وضربت مثلا بتايلند حيث ينتشر تناول بعض الحشرات مثل الديدان والصراصير، مضيفة أن الأمر يتكرر في قارات مختلفة.
ففي آسيا، تُعدّ سوسة النخيل الحمراء إحدى الحشرات الصالحة للأكل الأكثر شعبية وتعتبر طعامًا شهيًا غالي الثمن، وفي أفريقيا يتغذى بعض مواطني الكونغو على اليرقات خلال الأشهر المطيرة.
وفي أوروبا وأميركا الشمالية -تضيف الفاو- بدأ عدد متزايد من الأماكن بتقديم هذه المنتجات الغنية بالبروتينات. بينما يتخذ الاتحاد الأوروبي أيضًا خطوات لاعتماد الحشرات كمصدر للغذاء من خلال تحديد أنظمة السلامة التي تسمح ببيعها للاستهلاك البشري.
والمثير أن دراسة نشرت العام الماضي، وأشارت إليها الجزيرة نت، كانت قد اعتبرت أن الحشرات الصالحة للأكل لا تزال بعيدة عن أن تكون جزءا أساسيا من النظم الغذائية السائدة بالدول الغربية، لأن ما نعتبره جيدا للأكل مسألة نتعلمها ثقافيا و”المعرفة الثقافية التي نتلقاها غالبا عن الحشرات منذ الصغر أنها آفات وناقلة للأمراض”.
وتلفت معدة الدراسة إلى أنه على الرغم من النفور الغربي من أكل الحشرات، فـ “إن هناك تاريخا طويلا من أكل الحشرات بالمناطق المدارية، لأن الحشرات غالبا ما تكون أكبر ومتاحة أكثر ومغذية مقارنة بالمناطق الباردة أو الأكثر اعتدالا، مما يجعلها مصدرا أفضل للغذاء”.
الجدير بالذكر أن القوانين الأوروبية التي صدرت بداية هذا العام كانت محصلة خطوات مهدت لها وكان أكبرها في يناير/كانون الثاني 2021 عندما أعطت الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية الضوء الأخضر لاستهلاك أطعمة مشتقة من نوع من الخنافس، حيث اعتبرت أن يرقات “دودة الوجبة” آمنة للاستهلاك “إما كحشرة مجففة كاملة أو كمسحوق”.
الماضي والمستقبل
وقبل سنوات قليلة، ألقى لارس هينريك لو هيكمان -أحد الخبراء بهذا المجال- محاضرة وصف فيها الحشرات بأنها “طعام الماضي والمستقبل” معتبرا أن أكلها وإن كان يعد بمثابة صدمة حضارية فإن الفوائد الاقتصادية والبيئية التي تنتج من هذا الاختيار “قد تجعلنا نغير رأينا”.
ويعتبر هيكمان أنه من منظور بيولوجي فإن الطعام كله متشابه، لكن الأمر يختلف من المنظور الثقافي الذي يتغير من وقت لآخر، ضاربا المثل بأوروبا حيث كان أكل الحشرات جزءا من ثقافتها الغذائية قديما كما حدث في عصر الروماني وبداية القرون الوسطى.
وبصرف النظر عما إذا كان العالم سيواصل توجهه نحو أكل الحشرات من عدمه، ويبدو أنه يواصل، فإن البعض يتساءل عن الطريقة حال حدوث ذلك، وهل سيتحول قسم من الناس لامتهان صيد الحشرات من أجل تحويلها إلى طعام؟
الإجابة بالنفي طبعا على لسان خبراء نقلت عنهم “د ب أ” موضحة أنه سيتم تربية الحشرات خصيصا لهذا الغرض، وإن كان الأمر ما يزال بحاجة لمزيد من الإيضاح، حيث يفتقر الكثير من الدول للقواعد الحاكمة لكيفية الحفاظ على الحشرات، وفقا للوكالة.
وسبق للجزيرة نت أن نشرت، في فبراير/شباط 2019، عرضا لمقال بصحيفة لوموند الفرنسية أشار إلى أن خبراء يعملون بمعهد أبحاث لبيولوجيا الحشرات بمدينة تور يعكفون على تطوير تربية الحشرات، انطلاقا مما تراه الفاو من أن زراعة الحشرات ستكون لها مساهمة بيئية بالأمن الغذائي، في مواجهة النمو السكاني وزيادة الطلب على المنتجات الحيوانية وتناقص الموارد.
وتطرق المقال لصعوبة تقبل الكثيرين لفكرة أكل الحشرات، واعتبر أن هذا القبول سوف يمر من خلال بعض التركيبات حيث لا يمكن التعرف عليها في الغذاء، مثل الطحين على سبيل المثال، كما هي الحال في سويسرا، حيث تبيع شركة “إسانتو” منذ 2017 شرائح لحم مصنوعة من الدقيق والأرز والديدان النباتية في 60 متجرا ومطعما.