المقاومة الفردية‎‎ ليست بديلًا عن المقاومة المنظمة…

الكاتب هاني المصري:

رافقت أعمال المقاومة الفردية النضال الفلسطيني منذ بدايته، واستمرت حتى الآن، فلم تمر فترة لم تنفذ فيها مثل هذه المقاومة، ولكن الجديد أن هذه الأعمال غدت في الأعوام الأخيرة ظاهرة.

كما أذكر شكلت أنا وبضعة أشخاص بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع في العام 1967، ثم زاد العدد بسرعة ليصل إلى العشرات تقل أعمار معظمهم عن 16 عامًا، خلايا للمقاومة نفذت العديد من العمليات، مثل إلقاء الحجارة، والكتابة على الجدران، وإلقاء عبوات المولوتوف، وتوزيع المناشير التحريضية ضد الاحتلال، والتعبئة لشعبنا، وفعلنا ذلك لأننا لم نكن نعرف أحدًا من المنتمين إلى الفصائل؛ حيث كنا نبحث عن أي فصيل مقاوم لننتمي إليه، وكان عملنا هذا فرديًا غير منظم، ولكن من خلال مجموعات وخلايا، إلى أن شهدنا النهوض الوطني الذي قادته الفصائل، وخصوصًا حركة فتح الذي حصلت انطلاقتها الثانية والأكبر بعد انتصار معركة الكرامة في آذار/ مارس 1968.

يسمي الاحتلال المقاومة الفردية “الذئاب المنفردة”، ولكنها تحولت بشكل نوعي يختلف عما كان الأمر عليه سابقًا إلى ظاهرة منذ العام 2015، عندما نفذ مهند الحلبي عملية فدائية بمفرده، ثم كرت السبحة طوال أكثر من عام، ثم هدأت الموجة وانحسرت إلى أن تصعد موجة أخرى، فقد تم في تلك الموجة تنفيذ سلسلة من عمليات المقاومة الفردية غلب عليها استخدام السكاكين واستخدام السيارات للدهس، لدرجة أطلق عليها “انتفاضة السكاكين”.

لماذا تحولت المقاومة الفردية إلى ظاهرة لدرجة أن أكثر من 99% – كما كتب د. وليد عبد الحي – من عمليات المقاومة المسلحة خلال العام الماضي وحتى نهاية الشهر الماضي نفذت من أفراد، سواء كانوا منظمين في فصائل أو غير منظمين، ولكنهم نفذوها بمبادرة من تلقاء أنفسهم من دون تبنٍ من الفصائل لها؛ أي دون الرجوع إلى فصائلهم أو تكليف منها؟

هل تشكل المقاومة الفردية الحل أو البديل الإستراتيجي من المقاومة المنظمة، أم أنها موجات تمر في مد وجزر تأتي الواحدة أكبر أو أصغر من الأخرى، وتأخذ كما الحالية شكل المقاومة المسلحة بعد أن كانت مقاومة بالسكاكين؟

أبدأ بالقول إن المقاومة الفردية رد فعل على الاحتلال، وما يقوم به من جرائم مستمرة ومتنوعة ومتصاعدة، تستهدف البشر والشجر والأرض والحقوق والكرامة والحريات وتزييف التاريخ، ومصادرة حاضر الفلسطينيين ومستقبلهم، ومن المستحيل وقفها، فما دام الاحتلال قائمًا ومستمرًا في جرائمه وما دامت الفصائل على حالها ولم تشكل فصائل جديدة في مستوى التحديات والمخاطر وعلى قدر عظمة الشعب الفلسطيني المعطاء، ستستمر المقاومة حينًا بشكل منظم وفصائلي وحينًا آخر بشكل عفوي وفردي، جراء أنه لن تستطيع استخبارات الاحتلال وأجهزة الاتصالات المتقدمة التي يملكها والجواسيس المنتشرون في كل مكان، معرفة ما يدور في رأس إنسان لم يخبر أحدا عن نياته بتنفيذ عملية فدائية.

كما أن الشيء نفسه ينطبق على الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تقوم بالتعاون والتنسيق الأمني مع الاحتلال التزامًا بالاتفاقيات الجائرة التي لم يعد الاحتلال ملتزمًا بالتزاماته فيها، فلن تستطيع الأجهزة الفلسطينية معرفة أبطال المقاومة الفردية. لذا، وجدنا السلطة عاجزة أمام هذه الظاهرة، وهذا زادها ضعفًا على ضعف. كما ساعد دور التنسيق الأمني على بروز هذه الظاهرة التي يخفي أفرادها نواياهم حتى عن أقرب الناس لهم؛ لأن السلطة يمكن أن تصل إلى ما لا يمكن أن تصل إليه المخابرات الإسرائيلية. لذلك، بناء على ما سبق، من المستحيل وقف هذه العمليات أو منعها، ويمكن أن تتوقف فترة قد تقصر أو تطول، ولكنها ستعاود العمل مرة أخرى بالأشكال نفسها، وبأشكال جديدة تتناسب مع الظروف والتطورات والخبرات المستفادة، فهي أخذت مؤخرًا شكل العبوات الناسفة عن بعد، مثل عملية القدس ما قبل العمليتين الأخيرتين. كما أخذت شكل العمليات الاستشهادية من نوع جديد؛ أي بمعنى يعرف من ينفذها أنه سيستشهد من دون أن يحمل حزامًا ناسفًا على جسده، وهذا ما يؤدي إلى إطلاق لقب “جيل التضحية والبطولة” على هؤلاء الشبان، وهي مقاومة مهمة كونها تسبب للاحتلال استنزافًا وإرباكًا شديدًا؛ لأنه مضطر للاستنفار بشكل دائم وفي كل المناطق، فهو لا يعرف من أين وضد أي هدف ستأتي العملية القادمة، فالعمليات نفذت في داخل الخط الأخضر، ووصلت إلى مناطق في الضفة لم يسبق أن نفذت فيها عمليات مقاومة عسكرية، مثلما حصل في عملية الغور.

المقاومة الفردية إبداع فلسطيني

في هذا السياق، تأتي المقاومة الفردية بوصفها إبداعًا فلسطينيًا، ويدل مرة أخرى على أن الشعب الفلسطيني صامد، ومتمسك بحقوقه، ومصمم على البقاء والكفاح من أجل بقاء قضيته حية مهما طال الزمن وغلت التضحيات، فهو منذ أكثر من مائة عام مستمر في المقاومة، ثورة وراء ثورة، وانتفاضة وراء انتفاضة، وهبة وراء هبة، وموجة وراء موجة، مرة يعتمد الكفاح المسلح بما هو أسلوب وحيد أو رئيسي، ومرة يفضل المقاومة الشعبية، وفي مرات يجمع ما بين المقاومة الشعبية والمسلحة كما يحصل منذ سنوات عدة وحتى الآن.

أولًا: بسبب حدوث فراغ؛ حيث لم تشهد فلسطين المحتلة منذ توقف الانتفاضة الثانية عمليات مقاومة منظمة تذكر، مع استثناء قطاع غزة الذي صمد وقاوم ضد العدوان وراء العدوان، وقدم آلاف الشهداء والتضحيات الهائلة، على الرغم من استمرار وتكاثر الظلم والقتل والهدم وتقطيع الأوصال والتهويد والضم والتهجير والفصل العنصري والحصار الخانق، والطبيعة كما يقال تكره الفراغ، فأتى جيل الشباب الفلسطيني الذي ولد في معظمه بعد أوسلو وبعد الانتفاضة الثانية ليملأ الفراغ وليعبر عن غضبه بانتقام فعال، وليدل على أن العدو لم يكسر إرادة الشعب الفلسطيني على المقاومة، ولم يكو وعيه كما بشر موشيه يعلون، وزير الحرب وأركان جيش الاحتلال السابق، نفسه وشعبه أثناء الانتفاضة الثانية، ولم ينس تطبيقًا للمقولة الصهيونية “الكبار يموتون والصغار ينسون”.

ثانيًا: لأن الفصائل توقفت إلى حد كبير عن تنفيذ أعمال مقاومة عسكرية؛ سواء لتمكن الاحتلال باستمرار من تفكيك البنية العسكرية لها، ومن اعتقال الكثير من خلايا المقاومة قبل تنفيذها لأي عمليات، أو بعيد تنفيذ أول عملية؛ كونها لم تطور أساليبها بما يمكنها من قطع الطريق على “إنجازات” العدو، وخاصة حركتي حماس والجهاد والجبهة الشعبية، التي لا تزال تتبنى خيار المقاومة المسلحة بشكل رسمي وقولًا وفعلًا، بينما حركة فتح التي يساهم أفرادها في الكثير من العمليات لا يتم ذلك بقرار رسمي. وهذا يقود إلى القول إن الثمن الباهظ للمقاومة المسلحة المنظمة، وعدم مراكمة المقاومة لخبرات كافية تجعلها قادرة على التغلب على تطور قدرات وخبرات الاحتلال المتقدم عسكريًا وتكنولوجيًا، وعدم تحقيق إنجازات ملموسة على الرغم من استمرار وتعاظم الظلم؛ ساهم في وجود الفراغ.

مظاهر خاطئة

على المقاومة عمومًا، والكتائب والخلايا التي لا تتبع لفصيل خصوصًا، أن تعطي أهمية لهذا الأمر، وإنهاء الكثير من المظاهر التي تؤدي إلى مضاعفة الخسائر الفلسطينية، مثل المغامرة والتهور والإقدام على تنفيذ عمليات مقاومة من دون دراسة وتخطيط، والإقدام على الاستشهاد من دون حسابات كافية تجعل خسائر الاحتلال مؤكدة أو مرجحة، والعلنية والاستعراض بكل أشكاله بحمل السلاح وإطلاق الرصاص في المظاهرات وأثناء تشييع الشهداء، إلى استخدام الهواتف الحديثة التي يسهل مراقبة حاملها، حتى ولو كانت مغلقة، إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي عند اللزوم، ومن دون الحاجة، إلى درجة أطلق على أعمال المقاومة عند بعض الكتائب “مقاومة التيك توك”.

هل يمكن الجمع ما بين السلطة والمقاومة الفلسطينية في الظروف الراهنة؟

غلّبت “حماس”، وهي الفصيل الأكبر المقاوم، مقتضيات الحفاظ على السلطة في قطاع غزة على مقتضيات المقاومة، وهذا دفعها إلى عدم تنفيذ وعدم تبني عمليات في الضفة خشية من أن يأتي الرد في غزة، لدرجة أصبحت المقاومة في خدمة السلطة وليس العكس، وهذا لا يعني بأن حاجات قطاع غزة والسلطة هناك ليست مهمة ولا تستدعي المقاومة من أجلها، ولكن الصورة انعكست بسبب ما أدى إليه الانقسام من وجود سلطتين متنازعتين على القيادة والتمثيل والقرار؛ ما أوجد وضعًا قيدت فيه المقاومة نفسها من خلال الجمع ما بين المقاومة المسلحة والسلطة، في ظل اختلال فادح في ميزان القوى، وفقدان عمق عربي وإقليمي ودولي كافٍ وداعم للمقاومة العسكرية. فأصبحت الساحات تقاوم منفردة إلا في حالات محدودة، مثل معركة سيف القدس 2021.

أما ما حصل في معركة وحدة الساحات العام الماضي، فقد أحدث شرخًا في صفوف فصائل المقاومة؛ حيث اشترك الجهاد الإسلامي وحده في المعركة؛ ما يقتضي ضرورة العمل بسرعة لبلورة رؤية شاملة تنبثق منها إستراتيجيات مشتركة وقيادة واحدة وغرفة عمليات فاعلة يمكن أن تبدأ بالفصائل والحراكات التي تؤمن بالمقاومة، وتفتح أبوابها لمن يريد الانضمام على أساس جبهوي وشراكة حقيقية بعيدًا عن هيمنة فصيل، فكما شهدنا تم الاستفراد بقطاع غزة لفترة طويلة ولا يزال محاصرًا، ويتم الاستفراد في القدس بشكل متواصل، ويتم حاليًا الاستفراد بجنين ومن ثم نابلس.

ومن أسباب بروز المقاومة الفردية عدم قدرة الفصائل على تنفيذ عمليات أو عدم رغبتها في ذلك لحسابات فصائلية، أو لخشيتها من الثمن الباهظ من تنفيذها، وخصوصًا “حماس” التي تخشى على السلطة التي تقودها، وما ترتب عليها من مظاهر علنية وتوفير بنك أهداف كبير يستطيع العدوان الإسرائيلي أن يستهدفه في أي مواجهة، فكتائب القسام نفذت عملية في العام 2014 وقتلت فيها ثلاثة مستوطنين في الخليل، وكان من تداعياتها شن أكبر وأطول عدوان عسكري على قطاع غزة تسبب بخسائر فادحة، على الرغم من الصمود والمقاومة والبطولة التي جسدها شعبنا وفصائله. ولعل ليس صدفة بحتة أن ظاهرة المقاومة الفردية بدأت بالتبلور منذ ذلك التاريخ.

ثالثًا: وصول الإستراتيجيات المعتمدة إلى الفشل أو التعطيل، فأدت إستراتيجية المفاوضات والسعي إلى تسوية عبر تقديم التنازلات من دون مقاومة وتغيير في موازين القوى إلى وقوع كارثة، نجد فيها أن بقاء السلطة أصبح بحد ذاته هو الغاية، ووصلت إلى وضع إما تتغير وتصبح سلطة خدمية ومجاورة للمقاومة، أو أن تخضع أكثر لمتطلبات الاحتلال، أو تفكك إلى سلطات أو إدارات محلية، وترضى بأن يكون السقف الاقتصادي الأمني هو السقف الوحيد للتعامل الفلسطيني الإسرائيلي، في الوقت نفسه الذي تتم فيه مواصلة خلق الحقائق على الأرض لاستكمال بلورة أمر واقع، يجعل الحل الإسرائيلي بصورة أكبر هو الحل الوحيد المطروح عمليًا.

كما تبين مما سبق نجد أن إستراتيجية المقاومة المسلحة في مأزق؛ حيث إنها تغامر أحيانًا وتصمت أحيانًا أخرى، وتجعل الشعب الفلسطيني على أهميتها يدفع ثمنًا غاليًا، فقد قدم أكثر من 7 آلاف شهيد منذ العام 2005 وحتى الآن، معظمهم من قطاع غزة، والأهم أن الصمود العظيم والمقاومة الباسلة حققا بقاء المقاومة والقضية حية، وتسببا بخسائر في صفوف الاحتلال، ولكن لم يحققا أهدافًا سياسية ولا ميدانية، فلم يُرفع الحصار عن قطاع غزة، ولم يتغير الموقف الإسرائيلي إزاء الحقوق الفلسطينية، بل تحول إلى الأسوأ، فالمقاومة اضطرت إلى الموافقة على معادلة هدنة مقابل تسهيلات، وتتعمق هذه المعادلة من خلال السماح بعمل عمال من قطاع غزة في إسرائيل، وهذا يجعل الثمن على العمليات الفلسطينية أعلى، وهذا – أي المقاومة المسلحة – بحاجة إلى مقال منفصل يتناول موقع المقاومة المسلحة في المرحلة الراهنة، وهو مفترض أن يعالج كيف تحولت الصواريخ إلى عبء على المقاومة، وكيف يمكن أن تكون رافعة وطنية للمقاومة.

هل يمكن أن تكون المقاومة الفردية حلًا أو بديلًا من العمل المنظم؟

الجواب القاطع: لا كبيرة جدًا، فهي مهمة جدًا؛ لأنها تعبر عن غضب الجيل الجديد، واستعداده للتضحية، فضلًا عن دورها في إبقاء القضية حية، وتدفيع الاحتلال ثمنًا غاليًا، وجعله مستنفرًا طوال الوقت، وهذا يصب في زعزعة أركان قوته، وخصوصًا المعنوية، وتزيد في التساؤلات حول مستقبله، وتسد الفراغ الناجم عن عدم قدرة أو رغبة الفصائل على تنفيذ عمليات مقاومة مسلحة منظمة، التي اختارت دعم الكتائب المنتشرة من كتيبة جنين إلى عرين الأسود والتي انتشرت في عموم الضفة، معنويًا وماليًا وتسليحًا، وبالغت في تضخيم دورها وعدم معالجة أخطائها وقلة الخبرة التي تعاني منها، وعدم وضع أهداف ملموسة للتغطية على عجزها وقصورها، بدلًا من أن تتصدى الفصائل لقيادة الظاهرة وترشيدها، وإذا استمر هذا الحال سيدفع أكثر إلى تشكيل حراكات وفصائل تقوم بهذا العمل، فالبندقية غير المسيسة وغير المنظمة قد تشفي الغليل، ولكنها لا تحقق الأهداف المرجوة منها.

إن المقاومة حق وواجب، ولكنها ليست غاية ولا صنمًا نعبده، وإنما هي وسيلة لتحقيق أهداف، وحتى تتمكن من ذلك يجب أن تكون تجسيدًا لرؤية وممارسة لإستراتيجية، وخاضعة لقيادة لا تنظر إنجاز الوحدة ولا تهمل ضرورة العمل لتحقيقها؛ إستراتيجية تستطيع توظيفها في سياق المعركة المفتوحة، التي ستزداد ضراوة في الفترة القادمة، وعندما تتوفر هذه المتطلبات تصب عمليات المقاومة الفردية في هذا السياق الذي يهدف إلى تحقيق الأهداف الوطنية.

المقاومة الفردية ضرورية، ويجب أن تصب في سياق وطني يخدم الإستراتيجية المشتركة

إن الغضب من القيادة للتنازلات إلى حد الاستسلام، ومن الفصائل المتقادمة والمترهلة والعاجزة، لا يجب أن يؤدي إلى تقديس العمل الفردي والعفوي الذي يمكن أحيانًا أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، فمثلًا تنفيذ عملية كبيرة من فرد في وقت غير مناسب وضد هدف غير مناسب تؤدي إلى مقتل عشرات الإسرائيليين، خصوصًا إذا كان الهدف مقهى أو حافلة أو مكانًا للتجمع الجماهيري؛ سيدفع الاحتلال للزج بكل قوته ومضاعفة جهوده العسكرية والسياسية والأمنية لحسم الصراع في الوقت الذي فيه الشعب الفلسطيني، والمقاومة الفلسطينية تحديدًا غير جاهزة للحسم، وفي هذه الحالة سيتمكن العدو من الحسم لصالحه.

ألم تؤد الانتفاضة الأولى بكل عظمتها إلى أوسلو بسبب الأخطاء والخطايا والتسرع في الاستثمار قبل نضوج الثمار، وعدم تبلور الرؤية والإستراتيجية والقيادة المناسبة لما بعد فشل خيار المفاوضات؟

وألم تؤد الانتفاضة الثانية المغدورة لما هو أسوأ من أوسلو؛ لأنها لم تستثمر كما ينبغي، وكانت رد فعل على فشل المفاوضات من دون تبني إستراتيجية واضحة بديلة؛ حيث أدت إلى تعمق دور السلطة في خدمة الاحتلال من دون أفق سياسي، وإلى انقسام لا يقل سوءًا عن أوسلو، على الرغم من أنه إحدى نتائجه، وهو ليس نعمة كما يكتب البعض، بحجة أنه ساعد على بقاء وتراكم قوة المقاومة، فالخسائر من الانقسام أضعاف المكاسب المتخيلة، ولعل النتائج التي وصل إليها النضال الفلسطيني حاليًا دليل على ذلك، على أهمية استمرار المقاومة في الحفاظ على القضية، فمن دونها كانت القضية ستموت، وبقية الشعب سيشرد معظمه، وسيكون من دون هوية وطنية، ولا راية تحرر وطني بقيت خفاقة، فالمقاومة تحافظ على القضية وتوحد المقاومين ميدانيًا، ولكن الوحدة في إطار سياسي مشترك ووطني وديمقراطي وشراكة حقيقية، وفي إطار مؤسسة وطنية جامعة، تفتح طريق الانتصار.

زخم شعبي للمقاومة وقطاعات عريضة محايدة وشرائح ضد المقاومة

مع عظمة الشعب، لا بد ألا يجعلنا الزخم الشعبي الملتف حول المقاومة ألا نرى أن قطاعات واسعة من الشعب محايدة عن كل ما يجري، لأنها فاقدة الأمل بالنظام السياسي ومختلف مكوناته وليس لديها إيمان بإمكانية النصر، وهناك شرائح لا يستهان بها أصبحت ضد المقاومة بكل أشكالها؛ لأن لهم مصالح وخلقوا بنية متكاملة تدعمهم من خلال تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، ولأنها لا تؤدي وفق زعمهم سوى إلى الدمار، وحتى تتحرك القطاعات الواسعة يجب أن تشعر بأن هناك أملًا بالانتصار، وحتى يمكن ذلك لا بد من إحداث تغيير شامل في الفكر والرؤى والمسارات والأهداف وطرق العمل وأشكال المقاومة والعمل السياسي والمؤسسات؛ لتستجيب لمصالح وأولويات وحاجات الشعب الفلسطيني كله، وليس لأفراد وشرائح محدودة استفادت من الاحتلال والانقسام، وأصبحت مصالحها واستمرار نفوذها مرهونًا باستمرار هذا الواقع البائس.

المقاومة الفردية وجدت وستبقى، ولكنها ستكون مجدية أضعاف إذا جاءت نضالاتها في سياق تبلور رؤية وإستراتيجية وخطة عمل وقيادة واحدة تعزل المستسلمين، وتتحلى بالوعي والإرادة اللذين يجعلان المقاومة طريقًا للتحرير، وليس مجرد صفحة مجد جديدة في التاريخ الفلسطيني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *